بيونغ يانغ تستثمر انشغال العالم بأوكرانيا.. قواعد الردع بقلم| محمد منصور

بقلم| محمد منصور
قد يكون من البديهي اعتبار اندلاع حرب واسعة النطاق – بالمعنى المعاصر لهذه الكلمة – كالحرب في أوكرانيا مثلاً، بمثابة فرصة لقوى إقليمية ودولية أخرى، تستغل من خلالها الانشغال الدولي الواسع بمعالجة التأثيرات السياسية والاقتصادية الناجمة عن هذه الحرب، والقيام بخطوات سياسية أو استراتيجية جريئة، كانت الظروف الدولية في المرحلة السابقة لا تسمح بالقيام بها.
في هذا الإطار، يمكن النظر، بصورة أو بأخرى، إلى التحركات الكورية الشمالية منذ أوائل العام الجاري، سواء فيما يتعلق بمواقعها الخاصة بالأنشطة النووية، أو تجاربها الصاروخية، التي تسارعت وتيرتها هذا العام على نحو ملحوظ للغاية. تجدُّد التحركات حول المواقع الكورية الشمالية، التي تتعلق بالتسليح النووي، وداخلها، يُعَدّ مؤشراً أساسياً من مؤشرات محاولة بيونغ يانغ استغلال الأوضاع الإقليمية والدولية الحالية، وخصوصاً أن هذا التجدد يتعلق بصورة رئيسة بموقعين أساسيين من المواقع النووية الأساسية في البلاد.
تحركات لافتة في المواقع النووية الكورية الشمالية
الموقع الأول هو المركز الوحيد المعروف للاختبارات النووية في كوريا الشمالية، ويسمى “بونغ كيه – ري”، وهو عبارة عن شبكة من الأنفاق والمواقع التحت أرضية، تقع في محافظة “هامغيونغ الشمالية” أقصى شمالي البلاد. شهد هذا الموقع بين عامي 2006 و2017، ستَّ تجارب نووية، إلى جانب تجارب أخرى تتعلق بالتسليح الصاروخي، لكن بيونغ يانغ أعلنت، في نيسان/أبريل 2018، أنها ستُوقف التجارب النووية وستغلق هذا الموقع، وخصوصاً بعد أن أشارت تقارير غربية إلى أن أضراراً كبيرة حدثت في أحد أنفاق هذا الموقع، خلال التجربة النووية الأخيرة، التي تمت عام 2017.
ظل هذا الموقع متوقفاً على نحو شبه تام، إلى أن أظهرت صور الأقمار الصناعية، في آذار/مارس الماضي، نشاطاً ملحوظاً للسيارات والأفراد حول المباني الرئيسة لهذا الموقع، وهو ما أوحى باحتمال إعادة تأهيله واستخدامه في تجارب نووية جديدة. وعلى الرغم من أن تحقُّق هذا الاحتمال يبقى محلَّ شك، فإن مشاهدات أخرى عزّزت التقديرات التي تشير إلى تفكير بيونغ يانغ في تجديد – أو حتى التلويح النظري – ورقة التجارب النووية، وعلى رأسها الأنشطة التي باتت ملحوظة في نطاق المفاعل النووي غير المكتمل في محطة “يونغبيون” للأبحاث النووية.
أهمية هذه المحطة – إلى جانب إمكاناتها البحثية في مجال التسليح النووي – أنها احتوت، منذ عام 1986، على مفاعل نووي يعمل بالغرافيت والغاز، بقدرة 5 ميغاواط، ومخصَّص لإنتاج عنصر البلوتونيوم، وهو أحد العناصر الأساسية في إنتاج الأسلحة النووية. وسعت بيونغ يانغ، منذ ذلك التوقيت، لبناء مفاعل مماثل، على أن يكون ذا قدرة أكبر تصل إلى 50 ميغاواط داخل هذه المحطة. وبدأت كوريا الشمالية، أوائل تسعينيات القرن الماضي، بناء هذا المفاعل، لكن توقفت عمليات بنائه عام 1995، بعد الاتفاق الذي توصلت إليه كوريا الشمالية مع الولايات المتحدة الأميركية قبل ذلك بعام، ونصّ على تجميد كل أعمال البناء المتعلقة بالتسليح النووي، وتزويد كوريا الشمالية بمفاعلات نووية تعمل بالماء الخفيف.
انهار هذا الاتفاق عام 2002، لكن كان من الصعب على بيونغ يانغ استئناف عمليات بناء هذا المفاعل، نظراً إلى صعوبات مادية، وبسبب الأضرار التي أصابت هياكله نتيجة تجميد العمل فيه عدةَ عوام. ظل هذا الموقع محطَّ أنظار الأقمار الصناعية الغربية، التي لاحظت، منذ عام 2014، تحركات وأنشطة في عدة مناطق فيه، وهي تحركات تكثَّفت على نحو ملحوظ بالتزامن مع بدء الأحداث في أوكرانيا، وتركزت في نطاق الأبنية الخاصة بالمفاعل غير المكتمل داخل هذا الموقع، وخصوصاً إحدى المنشآت الصناعية الملحَقة به.
التحركات السالف ذكرها، في المواقع النووية الكورية الشمالية، ربما لا ترتبط بصورة مباشرة بنية حقيقية لدى بيونغ يانغ من أجل تنفيذ تجارب نووية أو إعادة تفعيل المواقع التي تم تجميدها أو إغلاقها سابقاً، بحيث يشير بعض التقديرات إلى أن بعض هذه التحركات قد يستهدف الاستفادة من المواد والخامات الموجودة في هذه المواقع. لكن، على الجانب الآخر، يطرح توقيت هذه التحركات إمكان إعادة تشغيل هذه المواقع، وخصوصاً في ظل التجارب الصاروخية المتعددة التي أجرتها كوريا الشمالية هذا العام.
التجارب الصاروخية.. أداة كورية شمالية للمناورة والضغط
قبل تناول هذه التجارب، لا بد من إلقاء نظرة على مسار هذه التجارب خلال الأعوام الأخيرة، ومدى ارتباط وتيرتها بحالة العلاقات بكوريا الجنوبية والولايات المتحدة الأميركية، وهي علاقات تُعَدّ محركاً أساسياً لهذه التجارب، التي تبدو مرتبطة بالعوامل السياسية بقدر ارتباطها بخطة التحديث العسكري الكوري الشمالي.
عام 2017 كان عاماً مفصلياً في التجارب الصاروخية الكورية الشمالية، ففيه تم اختبار مجموعة من الصواريخ الباليستية المتوسطة والبعيدة المدى، والموجودة في الترسانة الكورية في ذلك التوقيت، ومعظمها خضع للمرة الأولى للاختبارات العملية، بحيث تم إجراء نحو 20 تجربة صاروخية، تتضمن ست تجارب لإطلاق الصاروخ الباليستي العابر للقارات، “هواسونج – 12″، وهو تحديث لصاروخ “هواسونج – 10”. وبلغ المدى الأقصى لهذه النسخة أيضاً أربعة آلاف كيلومتر، لكنها كانت مزوَّدة برأس حربي يتميز بإمكان تحميله بشحنة نووية.
جرت أيضاً خلال هذا العام تجربتان لإطلاق الصاروخ الباليستي العابر للقارات ذي المرحلتين، “هواسونج – 14″، والذي يتعدى مداه الأقصى عشرة آلاف كيلومتر، ويحمل رأساً حربياً تقليدياً أو نووياً تبلغ زنته نصف طن. وجرت أيضاً تجربتان لإطلاق صاروخ باليستي جديد متوسط المدى، تمت تسميته “بوكوكسونج-2″، إحداهما جرت خلال زيارة رئيس الوزراء الياباني للولايات المتحدة، وبلغ مدى هذا الصاروخ، الذي يعمل بالوقود الصلب، نحو 2000 كيلومتر.
من ضمن تجارب ذاك العام، كانت تجربة إطلاق الصاروخ الأهم على الإطلاق في الترسانة الكورية الشمالية في تلك الفترة، وهو الصاروخ الباليستي العابر للقارات، والثنائي المراحل، “هواسونج-15″، والذي يصل مداه الأقصى إلى 13.000 كيلومتر، ومزوّد برأس حربي تقليدي تبلغ زنته طناً واحداً، مع إمكان إبداله برأس حربي نووي.
قررت كوريا الشمالية، عام 2018، إيقاف التجارب الصاروخية، على خلفية بدء مباحثات عالية المستوى بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية، إلّا أن هذه التجارب عادت بكثافة عام 2019، بعد انهيار هذه المباحثات. وتم في ذاك العام تسجيل الرقم القياسي الحالي لأكبر عدد من التجارب الصاروخية في كوريا الشمالية، والتي بلغت 27 تجربة صاروخية، أهمها 23 تجربة على سلسلة الصواريخ الباليستية القصيرة المدى، “كي إن – 23″ و”كي إن – 24” و”كي إن – 25″، والتي يتراوح مداها بين 400 و600 كيلومتر، إلى جانب تجربة غير مسبوقة على إطلاق صاروخ “بوكوكسونج-3″، الباليستي، والذي تم إطلاقه بنجاح من على متن غواصة معدَّلة من الفئة “سينبو-سي”، وهو ما شكل نقلة إضافية في القدرات الصاروخية الكورية الشمالية، والتي كانت تعتمد حصراً على منصات الإطلاق الأرضية الذاتية الحركة. وتشير التقديرات إلى ان هذا الصاروخ، العامل بالوقود الصلب، يستطيع الوصول إلى أهداف تقع على بعد 2500 كيلومتر من موقع إطلاقه.
اكتفت بيونغ يانغ، عام 2020، بإجراء تسع تجارب صاروخية فقط، تركزت جميعها على الصواريخ الباليستية القصيرة المدى، من طراز “كي إن – 24” و”كي إن – 25″، في ظل أجواء دولية بدا منها أن شبه الجزيرة قد تشهد انخفاضاً كبيراً في التوتر الذي كان سائداً خلال الأعوام الماضية. لكن، بدا من طبيعة التجارب الصاروخية التي أجرتها كوريا الشمالية عام 2021، على الرغم من عددها المحدود، والذي بلغ ستَّ تجارب فقط، أن بيونغ يانغ تسعى حثيثاً نحو زيادة قدرات الردع الصاروخية الخاصة بها، وخصوصاً بعد لأن بدأت اتخاذ خطوات تصعيدية لافتة، كان أهمها تفجير مكتب الارتباط المشترك مع كوريا الجنوبية في حزيران/يونيو 2020، وإعلان الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، أوائل العام نفسه، بدءَ بلاده قريباً برنامجاً لتصنيع أسلحة استراتيجية جديدة.
تجارب صاروخية نوعية عام 2021
تجارب عام 2021 الصاروخية شملت أربع تجارب إطلاق لنسخة مطوَّرة من صواريخ “كي إن – 23” الباليستية والقصيرة المدى، تم خلالها إطلاق هذا الصاروخ من ثلاث منصات متعددة: “سكك حديدية – منصة أرضية – غواصة”. حمل اختبار النسخة المطورة من هذا الصاروخ حينها عدة مؤشرات بالغة الأهمية. أولها أن هذه الاختبارات تُعَد الأولى في ظل إدارة بايدن، واستهدفت كوريا الشمالية من خلالها إرسال رسالتين إلى الإدارة الجديدة، الأولى تختبر فيها ردود أفعال هذه الإدارة، وتؤكد من خلالها أنها ستستمر في تطوير قدراتها الصاروخية. والثانية مفادها أنها لن تقف مكتوفة اليدين أمام تصاعد التعاون العسكري بين واشنطن وسيؤول.
المؤشر الثاني المهم في هذا الصدد، كان في خصائص النسخة المطوَّرة، التي تم إطلاقها في التجارب الأربع، بحيث حلقت هذه النسخة خلال تجارب الإطلاق، مسافةَ 600 كيلومتر، برأس حربي تم تعديله بصورة جذرية، لتصبح زنته ما يقرب من 2500 كيلوغرام، وهو ما يجعل هذا النوع من الصواريخ ذا تأثير تدميري ضخم، مع توافر إمكان – يبدو ضئيلاً – تحميله برؤوس حربية غير تقليدية. من النقاط اللافتة في هذا الصدد، أن القيادتين العسكريتين في اليابان وكوريا الجنوبية أخطأتا، في البداية، في تحديد مدى النسخة الجديدة من هذا الصاروخ، فقالتا في البداية إن مداه لم يتجاوز 450 كيلومتراً، لكنهما عادتا واعترفتا بأن مداه وصل إلى 600 كيلومتر، وأنه اتّبع نمط تحليق معقداً، بحيث حلق في البداية على ارتفاع يبلغ 60 كيلومتراً عن سطح البحر، ثم نفّذ في المرحلة الأخيرة من التحليق، انزلاقاً جوياً إلى مستوىً منخفض جداً فوق سطح البحر، وهو ما يصعّب مهمة رصد هذه الصواريخ واعتراضها، ويمثّل تحدياً جدياً لكوريا الجنوبية، التي فشلت في رصد المراحل الأخيرة لتحليق هذا الصاروخ خلال تجربتين على الأقل من التجارب الأربع.
تجربة إطلاق هذا النوع من الصواريخ من على متن قطار، تم تعديله خصيصاً ليصبح منصة إطلاق صاروخية، كانت من الأمور اللافتة في تجارب هذا العام، وخصوصاً أنه، خلال هذه التجربة، حلق صاروخ “كي إن – 23” مسافة أكبر من مسافة تحليقه في التجارب الأخرى، ووصل إلى مسافة 800 كيلومتر. واللافت هنا أن هذه التجربة ألقت الضوء على تشكيل الجيش الكوري الشمالي أفواجاً متحركة على قضبان من منصات إطلاق الصواريخ، وهي ميزة تكتيكية مهمة بالنظر إلى قابليتها بشكل أكبر للبقاء من المنصات الثابتة، ويمكن من خلالها، في حالة الضرورة، الاستفادة من خطوط السكك الحديدية في البلاد، والبالغ طولها 7435 كيلومتراً، ناهيك بتميّزها بالتمويه نظراً إلى أنها تبدو ظاهرياً مثل قطارات الشحن المدنية، ويمكن تخزينها وإخفاؤها في الأنفاق الخاصة بهذه القطارات. يُضاف إلى ما سبق، إمكان الاستفادة من هذه المنصات في إطلاق الصواريخ الباليستية الثقيلة والبعيدة المدى.
من تجارب هذا العام أيضاً، تجربة نوعية لإطلاق صاروخ باليستي يُسَمى “هواسونج-8″، مزوَّد برأس حربي انزلاقي تفوق سرعته سرعة الصوت. وتمّت عملية الإطلاق عبر منصة ذاتية الحركة، قبيل ساعات من إلقاء سفير كوريا الشمالية لدى الأمم المتحدة خطابَ بلاده، في الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. حلق هذا الصاروخ مسافة أقل من 200 كيلومتر، على ارتفاع يتراوح بين 30 و60 كيلومتراً.
ربما لم يكن مدى هذا الصاروخ أو ارتفاع تحليقه بمثابة إضافة نوعية للقدرات الكورية الشمالية، لكن المهم فيما يتعلق به أنه يمثّل المحاولة الأولى من جانب بيونغ يانغ لتطوير تقنية توصَّلت إليها سابقاً دول كبرى، مثل الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين، وهي تقنية “المركبات الانزلاقية”، وهي رؤوس حربية منزلقة تحلّق بسرعة الصوت نحو هدفها، بعد أن تنفصل عن الصاروخ الحامل لها خارج الغلاف الجوي للأرض، الأمر الذي يجعل من الصعب على شبكات الدفاع الجوي تتبّع هذه الصواريخ ورصدها واعتراضها، نظراً إلى ضِيق الوقت المتاح أمام هذه الشبكات لرصد هذه المركبات لأنها تأتي من خارج الغلاف الجوي بسرعات كبيرة.
جدير بالذكر هنا، أن عام 2021 شهد أيضاً تجربة كورية شمالية لإطلاق “صاروخ جوّال”، تم إطلاقه من منصة ذاتية الحركة تحمل خمسة أنابيب للإطلاق. الصاروخ الجديد حلّق عبر ثمانية مسارات متعددة الأشكال مدةَ ساعتين وستَّ دقائق، قطع خلالها أكثر من 1500 كيلومتر، بسرعة تتراوح بين 440 و700 كيلومتر في الساعة، وهو يتشابه إلى حد كبير مع الصاروخ الجوّال الروسي “كي أتش-55”. لفتت هذه التجربة بشدة انتباه كل من اليابان والولايات المتحدة الأميركية، ليس فقط لأن هذه التجربة تمت قبل يوم واحد فقط من اجتماع كبار المفاوضين النوويين من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان في طوكيو، من أجل البحث في مستقبل الوضع الكوري الشمالي، لكن أيضاً لأن كوريا الشمالية كانت تعمل منذ أعوام على تصنيع رؤوس حربية نووية مصغَّرة، لتحميلها على صواريخ تكتيكية ذات مدى كبير، وهو ما يتوافر، بصورة واضحة، في الصاروخ الجوال الجديد، والذي يمتلك نظرياً القدرة على حمل رؤوس نووية.
وفي حالة ما إذا تأكَّدَ سعي كوريا الشمالية لتطوير صواريخ جوالة ذات رؤوس نووية، فإن امتلاكها هذه التقنية سيوفّر لها قدرة عسكرية جديدة، تضاف إلى صواريخها الباليستية، لأن الصواريخ الجوالة تكون أسهل في النقل والإخفاء، وتتميز بصعوبة كشف مكان إطلاقها، وكذلك إمكان استخدامها في مهاجمة كل أنواع الأهداف البرية والبحرية. علاوة على ذلك، فإن نجاح كوريا الشمالية في هذا الصدد، قد يتيح لها الفرصة في تطوير صواريخ جوالة أخرى، يتم إطلاقها من منصات بحرية أو جوية.
تجارب متزامنة مع بدء العمليات العسكرية في أوكرانيا
فيما يتعلق بالتجارب الصاروخية التي نفّذتها كوريا الشمالية هذا العام، فقد بلغ عددها حتى الآن ثلاث عشرة تجربة صاروخية متنوعة، تضمّنت تجربة بعض الأنواع الجديدة من الصواريخ، والتي لم يسبق اختبارها سابقاً، وظهرت خلال المعرض العسكري الذي أقامته بيونغ يانغ في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وكذلك في العرض العسكري الذي أقيم في نيسان/أبريل الماضي. تضمّنت هذه التجارب إطلاق صواريخ مضادة للطائرات، وصواريخ باليستية قصيرة المدى من البحر والبر، إلى جانب تجربة فاشلة لإطلاق الصاروخ الفضائي “أونها-3”. أهم هذه التجارب تجربتان تمّتا في كانون الثاني/ يناير الماضي، لإطلاق نسخة محسنة من صواريخ “هواسونج-8″، المزوَّدة بمركبة انزلاقية أسرع من الصوت. وتمكّن هذا الصاروخ، في كِلْتا التجربتين، من إصابة هدفه بدقة على مسافة 700 كيلومتر، وهو ما يُعَدّ نجاحاً كبيراً بالنظر إلى تحليقه مسافة 200 كيلومتر فقط في تجربة العام الماضي.
تضمنت هذه التجارب أيضاً تجربة هي الأهم، للصاروخ العابر للقارات والأكثر أهمية في الترسانة الكورية الشمالية حالياً، وهو الصاروخ “هواسونج-16″، الذي ظهر للمرة الأولى في تشرين الأول/أكتوبر 2020، لكن هذا يُعَدّ الاختبار الأول له. هذا الصاروخ، الذي يُعَدّ تطويراً لصاروخ “هواسونج-15″، الذي تم اختباره عام 2017، تشير التقديرات إلى أن مداه الأقصى قد يصل إلى 13 ألف كيلومتر، وهو ما يجعله مهدِّداً لمعظم أراضي الولايات المتحدة الأميركية، ناهيك بإمكان حمله ما يصل إلى أربع رؤوس حربية منفصلة. خلال هذه التجربة، التي تمت في آذار/مارس الماضي، تمكّن الصاروخ المستخدم في الوصول إلى مسافة تعدت 1000 كيلومتر، وارتفاع 200 كيلومتر.
الوتيرة الكثيفة لهذه التجارب الصاروخية، تزامنت مع تولي الرئيس الكوري الجنوبي الجديد، يون سوك-ديول، والمعروف بميوله المحافظة، مهمّات منصبه، وسبق له الإدلاء بتصريحات حادة بشأن كوريا الشمالية. لذا، لم يكن مستغرباً أن تهدد كوريا الشمالية – على لسان زعيمها كيم جونج أون – في مناسبتين متتاليتين، في شهر نيسان/أبريل الماضي، باستخدام السلاح النووي، في حالة تعرض “المصالح الأساسية” لكوريا الشمالية لأيّ تهديد. وهذا هو المعنى نفسه الذي صرحت به في الشهر ذاته، كيم يو جونج، شقيقة زعيم كوريا الشمالية، والتي قالت صراحة إنه إذا اختارت كوريا الجنوبية المواجهة العسكرية مع كوريا الشمالية، أو حاولت شن ضربة استباقية ضدها، فإن بلادها سترد بضربة نووية، وهو تصريح كان رداً مباشراً على تصريحات وزير الدفاع الكوري الجنوبي، سوه ووك، بشأن قدرة بلاده على توجيه ضربات استباقية إلى كوريا الشمالية.
خلاصة القول أن كوريا الشمالية تحاول في هذه المرحلة انتهاز الانشغال الدولي بأزمة أوكرانيا، كي تُرسي قواعد جديدة في معادلة الردع بينها وبين جارتها الجنوبية، وفي الوقت نفسه ترسل رسالة واضحة، بشأن تطور قدراتها العسكرية، إلى الولايات المتحدة الأميركية، وخصوصاً في ظل احتمالات تدهور الوضع الجيوسياسي في شرقي آسيا، على خلفية التغيرات الجوهرية في المعادلة الدولية، والتي ستنتج حتماً من الحرب في أوكرانيا.
بيونغ يانغ تضع أمام ناظريها مساعي طوكيو وسيؤول للتسلح، ووصول هذه المساعي إلى حد تطوير صواريخ باليستية نوعية، وهو ما يمثل تجاوزاً لنقطة تفوُّق كورية شمالية كانت سائدة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهذا كان سبباً رئيساً في جولة التطوير النوعي الملحوظة في التسليح الصاروخي في كوريا الشمالية، والذي يبدو مركّزاً على توفير القدرة على تجاوز الدرع الصاروخية الأميركية في المحيط الإقليمي لبيونغ يانغ. تبدو كوريا الشمالية مصممة، على نحو واضح، على توسيع معادلة الردع في هذا النطاق، حتى لو تطلّب ذلك إعادة التجارب النووية، التي تم إيقافها عام 2017.